*
أجرى اللقاء: وحيد تاجا
رأى الشاعر والناقد جبر شعث أن المشهد الشعري الفلسطيني رائع وثري ومتنوع، ورفض في حواره مع "مؤسسة فلسطين للثقافة" أن بجزئ هذا المشهد، "بين داخل وخارج، فهو واحد في فلسطين وفي أماكن الشتات المختلفة"، وأشار إلى أنه" بعد مرحلة أوسلو رجع معظم الشعراء الفلسطينيين إلى ذواتهم، وراحوا يبحثون عن تفردهم.. لقد جعلوا من ذواتهم مركزاً ينظرون منه إلى الكون".. وحول موقفه من الالتزام قال: " أولاً أنا ضد الالتزام بمفهومه المحدد الصارم في الفن، أنا مع الفن بفضاءاته الإنسانية المفتوحة، مشيرا إلى أنه ليس مع نظرية نقدية موحدة وإنما مع نظريات نقدية عربية مختلفة تثري المشهد الإبداعي العربي... معلنا اتفاقه مع الناقد السعودي عبد الله الغذامي في أن النقد العربي اقتصر على الناحية الأدبية وابتعد عن مفهوم النقد الثقافي الشامل.. مع اعترافه بأن الناقد العربي لم يستطع حتى الآن أن يستوعب مفهوم الحداثة فعلاً وينتهي من إشكالياتها بشكل قاطع.
ويذكر أن جبر جميل شعث من مواليد 1966 في خان يونس، حيث يقيم حاليا.
أصدر مع الشاعر الجزائري أحمد شنة ومثقفين جزائريين مجلة أدبية نقدية بعنوان "محراب" من سنة (1988-1990)..
نشر كثيراًَ من قصائده ودراساته اللغوية والنقدية في الملاحق الثقافية للصحف الفلسطينية والجزائرية والسورية واليمنية، وفي المجلات الأدبية المتخصصة. وفي المواقع الالكترونية.. يمارس النقد من - باب التذوق - للشعر وللقصة القصيرة.
أصدر حتى الآن ثلاثة دواوين: "أ ب" سنة 2003، "آثام بيضاء" سنة 2008 "كأني أنا" سنة 2010. ولديه مخطوطان الأول مجموعة شعرية بعنوان "سيرة ضالة"، والثاني بعنوان "خلوة خامسة" .
يرى البعض أن النقد الأدبي العربي الحديث اليوم في وضع مأزوم..، وأن النقاد العرب المعاصرون لم يستطيعوا أن يبلوروا نظرية خاصة في النقد الأدبي العربي.. ما رأيك؟
** قد يكون في هذا الرأي بعض الصواب، ولكن الوضع المأزوم للنقد العربي ليس ابن اليوم؛ فهكذا كان دوماً؛ لأن المنطلقات لأية عملية نقدية لم تكن في يوم من الأيام قائمة على مرجعية واحدة، ولأن الخلاف في هذا الشأن قد غُلب على الاختلاف.
وبناءً على ذلك لم تكن هناك نظرية نقدية خاصة بالأدب العربي، مع أنني لست مع نظرية نقدية موحدة وإنما مع نظريات نقدية عربية مختلفة تثري المشهد الإبداعي العربي... فنحن لم نسمع يوماً عن نظرية خاصة بالأدب الفرنسي أو الانجليزي أو الروسي.. بل عن نظريات متعددة ذات مرجعيات ثقافية مختلفة. وفي نهاية المطاف النقد هو عملية فردية وليست جماعية.
* وما هي سبل الخروج من إشكالات واقع النقد الأدبي العربي الحديث؟
** إن كانت الإشكالات تخص النص الأدبي موضوع النقد، فهي تدخل في سياق الاختلافات وهذه ظاهرة صحية ومطلوبة، ولكني أظن أن الإشكالات هي من صنع من يشتغلون في النقد، لأنهم في معظمهم لا يخلصون لعملية النقد، التي هي برأيي عملية إبداعية موازية للنص. ويمكن لنا أن نؤمن سبيلاً آمناً للخروج من تلك الإشكالات إذا ما كف بعض المشتغلين في النقد، عن تفصيل العملية النقدية على مقاس الأحلاف القبلية والسياسية والمذهبية والأيديولوجية، وتطلعوا جميعاً إلى النقد الخالص.
* ما هي التساؤلات المفترض أن يجيب عليها النقد الأدبي العربي المعاصر؟
** كثيرة، ولعل أهمها ثنائية التراث - الحداثة ذات الجدل المستمر، وكذلك خصوصية الإبداع العربي، التي لا تعني الانغلاق على الآخر، بل الانفتاح عليه والتلاقح معه.
ولكن انطلاقاً من الخصوصية التي تميز ثقافتنا العربية - الإسلامية.
* و كيف ترى ثنائية العلاقة بين الناقد والمتلقي؟
** الناقد يأتي دائماً بعد إنتاج النص الإبداعي، وهذا لا يلغي دوره الإبداعي الموازي فالنقد هو بالدرجة الأولى عملية إبداعية- معرفية، وليست معرفية بحتة كما يذهب بعض النقاد كصبحي حديدي. والمتلقي الذي يكون قد قرأ النص الأول حسب سياقاته الثقافية، ينتظر من الناقد قراءة تأويلية جمالية معرفية إبداعية له. وعليه فالعلاقة بين الناقد والمتلقي ينبغي لها أن تكون علاقة تجاذبية تذوقية.
* يرى د. عبد الله الغذامي أن النقد العربي اقتصر على الناحية الأدبية وابتعد عن مفهوم النقد الثقافي الشامل.. ما رأيكم بهذا القول؟
** صحيح وهذا ما جعل النقد العربي في مجمله يقع في التسطيح والشكلانية، فالاقتصار على الناحية الأدبية فقط، دون الاشتمال على المكونات الثقافية التي أُنتج فيها النص، تجعله مبتوراً عن سياقاته الحيوية.
* أيضا يرى بعض النقاد أن النقد العربي القديم كان نقدا جماليا فنيا فقط، بمعنى أنه كان يركز على الشكل وليس على المضمون..؟
** نعم كان نقداً اجتزائياً، يكتفي من القصيدة المطولة ببيت واحد أو اثنين ويصدر حكماً شكلياً على القصيدة والشاعر معاً، ولعل في تحكيم زوجة أمرئ القيس بينه وبين علقمة الفحل دليلاً على ما نذهب إليه، حسب الرواية التاريخية التي لا يمكنني الجزم بصحتها. ولكن الأمر تبدل بعد ذلك بفضل إشراقات عبد القاهر الجرجاني النقدية وغيره.
* هل ترى أن الناقد العربي استطاع أن يستوعب مفهوم الحداثة فعلاً وينتهي من إشكالياتها؟
** بشكل قاطع، لا، ولو كان الأمر كذلك، لما سمعنا ولا قرأنا إلى اليوم ونحن في الألفية الثالثة هذا الصراخ الذي مازال يصم آذاننا ويصدم ذائقتنا، حول التراث والمعاصرة، وحول شرعية قصيدة النثر، والمفاضلة العقيمة بين الأشكال.
* هناك حديث كثير حول الأدب النسائي.. ما مفهومك لهذا الأدب، وهل أنت مع هذه المقولة؟
** لا تجنيس للأدب. لا يوجد أدب مذكر أو أدب مؤنث، الأدب هو الأدب سواء صدر عن رجل أو امرأة، وأنا أرفض هذا التوصيف، كما أرفض ما يسمى بكتابة الجسد، الجسد الشهواني، كما تروج له مجلة لبنانية مشبوهة في منطلقاتها وفي غاياتها.
* بصفتك شاعر، فضلا عن كونك ناقد أدبي، من الظواهر الملفتة للنظر توجه معظم الشعراء العرب المعاصرين إلى الشعر الصوفي واستخدام المفردات الصوفية. ما رأيك؟
** نعم، ولكن هذا لا ينتج شعراً صوفياً كالذي نعرف، لأن استخدام مفردات الصوفيين لايعني تمثل تجاربهم الروحانية وشطحاتهم المثيرة. لقد قرأت لشاعر مصري يزعم أنه شاعر صوفي لفظاً وتجربة، فوجدت شعره ملفوفاً بحرير عمر ابن أبي ربيعة، وديباج أبي نواس، وليس فيه أثر من صوف الحلاج، وجوع السهر وردي.
هذه "موضة" تشبه إلى حد ما، توجه بعض شعراء الغرب نحو البوذية والديانات الهندية القديمة، رغم اختلاف التوجهين في الرؤية والغاية.
* يلاحظ اهتمام النقد الأدبي عندنا بالشعر وذلك على حساب الاهتمام بباقي الأجناس الأدبية؟
** من الطبيعي هذا الاهتمام، فالشعر هو سيد فنون القول المطلق، وكل عمل سردي يبحث عن شعريته الخاصة، وهذا لايقلل من قيمة الأجناس الأدبية الأخرى، ولقد شهدنا قراءات نقدية هامة تحليلية ومنهجية، لنقاد أفذاذ في الرواية والقصة، نذكر منهم عبد الفتاح كليطو وعبد الكبير الخطيبي وجابر عصفور وفيصل دراج ورضوى عاشور وغيرهم...
* اعتبرت في إحدى حواراتك أن الشعر شكل رافعة معنوية وتحريضية للشعوب عبر معظم الثورات العظيمة.. فهل ترى أن الشعر ما يزال يلعب هذا الدور.. وبالتالي تفسر ازدهار الرواية في العالم العربي على حساب الشعر..؟
** كان الشعر رافعة معنوية وتحريضية للشعوب منذ هوميروس وشعراء العرب القدامى وحتى أراغون ومالك حداد ومحمود درويش، فهذا الدور التثويري التنويري جدير به، وبه فقط، وسيظل محتفظاً بهذه الجدارة، ولن ينازعه عليها أي جنس أدبي آخر.
إن ازدهار الرواية في العالم العربي - كما تقول - لشيء يبهجني كناقد، ولكني أظن أنه كان ازدهاراً وقتياً، أما الشعر فازدهاره هو الثابت الدائم.
* إذا انتقلنا إلى المشهد الشعري الفلسطيني بالتحديد.. كيف يمكن وصف هذا المشهد.. وهل يمكن إجراء مقارنة بينه في الداخل وفي الخارج. من حيث المضمون والفنية؟
** مشهد رائع وثري ومتنوع، يتشكل من كوكبة من الشعراء من الجنسين، على قدر لا بأس به من الثقافة، والإخلاص للشعر، والشعور بالمسؤولية تجاه ما يبدعون.
ولا يمكنني هنا أن أجزئ المشهد الشعري الفلسطيني، بين داخل وخارج، فهو واحد في فلسطين وفي أماكن الشتات المختلفة، مع بعض الاختلافات التي تفرضها الجغرافيا، والرؤى الثقافية والفكرية والسياسية.
* في ذات الإطار.. هل يمكن أن نتحدث في هذه المرحلة عن خصوصية في الشعر الفلسطيني، ولاسيما المعاصر منه، وما هي المعايير التي تجعل من قصيدة ما قصيدة فلسطينية؟
** لا معيار للشعر إلا إنسانيته، ولكن يمكن أن نتحدث عن تغيرات طرأت على القصيدة الفلسطينية، فبعد أن تخلص الشعر الفلسطيني من الصراخ والبكاء، اتجه إلى الجمالي والإنساني والرؤيوي في الشعر، ثم وبعد مرحلة أوسلو رجع معظم الشعراءالفلسطينيين إلى ذواتهم، وراحوا يبحثون عن تفردهم، ولم يعد الهم الجمعي يعنيهم كثيراً بعد أن أصيبوا بالإحباط من إمكانية تحقيق أي اختراق في الموضوعة السياسية والحياتية بشكل عام. لقد جعلوا من ذواتهم مركزاً ينظرون منه إلى الكون، وقد تجلت رؤيتهم هذه في قصائدهم الإشكالية المتجاوزة.
* المعروف عن الشاعر جبر شعث أنه من الشعراء القلائل الذين استطاعوا القبض على زمام قصيدة النثر، والسؤال كيف ترى واقع هذه القصيدة.. و ماذا بعد قصيدة النثر.. لاسيما وأن بعض النقاد يرون أن الأشكال الحديثة للقصيدة أصبحت قديمة نسبيا وهي بحاجة إلى تجديد؟
** ولكن ربما غير المعروف عني أنني كتبت شعراً على كل البحور العربية الشهير منها المهمل، بل وكتبت أيضاً في مجموعتي الأولى على وزن الدوبيت الفارسي، فضلاً عن قصائدي التفعيلية. لقد أتيت إلى قصيدة النثر بعد تمكني من الشكلين الأولين، وربما هذا ما جعلني أقبض على زمامها كما تطرح في سؤالك، فأنا من دعاة تحاور الأشكال وتجاورها، فشكل القصيدة عندي لا يحدد قيمتها الفنية. أما عن واقع قصيدة النثر فهي قصيدة استطاعت أن ترسخ مشروعيتها الجمالية، وأن تفجر طاقات تعبيرية لم تكن قصيدة التفعيلة لتحتملها، ومن المبكر جداً أن نطرح سؤال: وماذا بعد قصيدة النثر؟ فهي لم تستنفد بعد كل إمكاناتها، وإن كان لابد من التجديد، فيمكن أن يحدث ذلك في داخل القصيدة ذاتها... التجديد ضمن الإطار!
* من يهاجم قصيدة النثر يقول إنها بلا موسيقى.. ويرى أن الشعر هو اللغة المتزوجة زواجا شرعيا طبيعيا جدا من الموسيقى في حين أن النثر يجاور الموسيقى.. يقاربها.. يتحدث إليها, ولكنها ليست من صميم كيانه بالذات؟
** هنايحدث خلط واضح، وأحياناً مقصود بين الوزن وبين الموسيقى، فالوزن هو معايير محددة صارمة مموسقة، ولكنها ليست الموسيقى على إطلاقها. ولم يكن الوزن في يوم، بحد ذاته كمجرد حكم قيمة على القصيدة. إن قصيدة النثر لديها من الإمكانات الموسيقية ما لايمكن تحديدها أو الإمساك باحتمالاتها المتناسلة، فالموسيقى فيها تتخلق تخلقاً، بل إن كل قصيدة نثر راقية لها موسيقاها الخاصة بها.
* تقف دائما إلى جانب القصيدة ذات الرؤيا الفكرية والإنسانية، فالشعر قبل أي شيء هو حامل للفكر، ومجاله الحيوي الإنسانية.. والسؤال كيف تفهم الالتزام في هذا الإطار.. وأين هو من الجمالية الشعرية؟
** أولاً أنا ضد الالتزام بمفهومه المحدد الصارم في الفن، أنا مع الفن بفضاءاته الإنسانية المفتوحة، ثم إنني عندما أقف إلى جانب القصيدة ذات الرؤيا الفكرية والإنسانية، فهذا لا يعني الانتقاص أو التقليل من شأن الصورة الشعرية، ومفاعيل الخيال، والانزياحات اللغوية، ولكن يجب أن تكون الرؤيا الفكرية هي العلة الأولى التي تخلق النص، فقصيدة بلا رؤيا فكرية واضحة هي تماماً كالميت إكلينيكيا. إن التهويمات اللغوية والإغراب المتعمد في الصور الشعرية، دون أية رؤيا، لا يخلق قصيدة مكتملة، بل قصيدة مشوهة خداجاً... وبعبارة واحدة: الشاعر الذي لا يعرف ماذا يريد، وكيف يقول، عليه أن يضع القلم ويصمت.
موقع مؤسسة فلسطين للثقافة
0 التعليقات:
إرسال تعليق